عن العولمة:
هذه الدراسة مستمدة من ترجمة – أحيانا كاملة وأحيانا بتصرف – من كتاب "مقدمة في العلوم الاجتماعية"، إعداد ديفيد هيلد An Introduction to the Social Sciences , Edited By: David Held
المجلد الرابع:
عالم في حالة عولمة؟
ثقافة، اقتصاد، سياسة.
مقدمة:
تسود حاليا الفكرة – المفهومة ضمنا- والقائلة أن بداية القرن الحادي والعشرين تشهد تغييرات متسارعة، أكثر من أي وقت مضى، يرتبط كثير من هذه التغييرات بمصطلح قد لا يكون دارجا لدى الجميع، وإن كان معروفا لدى الغالبية العظمى من الناس، ألا وهو العولمة- Globalization.
من الممكن سرد قصة العولمة بكلمات بسيطة، المخدرات، الجريمة، الجنس، الحروب، البشر، الأفكار، التصورات التعميمية، الأخبار، المعلومات، الترفيه، تلوث البيئة، المنتجات الاستهلاكية والمال؛ كل هذه الأشياء، كما يقال، تجوب الكرة الأرضية طولا وعرضا، تعبر الحدود الدولية والإقليمية، وتربط بين أرجاء العالم المتباعدة ربطا على نطاق واسع وبوتيرة لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل. ويبدو أن حياة الناس العاديين أصبحت تتشكل، بقدر آخذ في الازدياد، بواسطة قرارات يتم اتخاذها في أماكن بعيدة جدا عن مكان سكناهم ومكان عملهم. فالثقافات ، والاقتصاد، والأنظمة السياسية في أنحاء العالم تتمازج وتتداخل ببعضها البعض، كما يبدو،عن طريق التبادل السريع للمعلوماتية، الأفكار، المعرفة وإستراتيجية الاستثمار لاتحادات الشركات العالمية الكبرى.
إن ظهور الهاتف النقال، البث التلفزيوني على الأقمار الصناعية والانترنت، قد أدت لجعل الاتصال من أحد أطراف الكرة الأرضية للطرف الآخر، يتم في لمح البصر. فالأحداث البعيدة يتم عرضها على شاشة التلفاز تماما في لحظة حدوثها. عناوين الصحف، والبرامج التلفزية تجلب إلينا أنباء عن أزمات، ذعر ومخاوف جماعية، يستشف منها أن التغييرات في أرجاء العالم خرجت تماما عن السيطرة. بات كثير من خائفين على أمنهم الاقتصادي والفردي في أعقاب التغيرات السريعة في الاقتصاد العالمي، قناعاتنا الثقافية والسياسية أضحت متأرجحة بسبب ظهور حركات جديدة، وتطور مؤسسات جديدة. ويبدو أن سلطة الدول القومية المستقلة والمؤسسات الاجتماعية التقليدية أصبحت، لأول وهلة، بلا لزوم إثر ظهور القوى العالمية العظمى ذات التأثير والفاعلية. حتى أن قيمة المال الذي بحوزتنا، تتعلق بتذبذبات أسواق الأسهم العالمية.
الظاهر أننا نحيا في عالم فيه التغير وعدم التيقن آخذان في الازدياد، عالم يصفه غيدنز بأنه "عالم في سباق جري" "Giddens, 1999". يقول غيدنز:
"للأفضل أو للأسوأ، فإنه يتم دفعنا نحو نظام عالمي، لا يفهمه أحد منا فهما تاما، ولكنه يجعلنا جميعا نحس بتأثيراته."
(Giddens, 1999, Lecture 1).
يبدو أن هناك اتفاقا واسع النطاق، أن الدول القومية، التي كان وجودها وسيادتها يعدان كأساس للسلطة السياسية في القرون الثلاثة الأخيرة، تواجه الآن تحديات دراماتيكية.
الخواص المركزية التي تعرّف مفهوم الدول القومية (الدولة القومية: دولة ذات حدود خارجية معروفة، ثابتة ومحددة، تكون فيها السلطة واحدة ومتجانسة) تجعل هذه الدول عرضة للإصابة على خلفية التغيرات العالمية، حيث أن الأساس الجوهري في تعريفها هو:
"سلطتها التنفيذية العليا على مساحة جغرافية محددة"
(Held, 1995, p. 49).
أحد الأبعاد المركزية للدولة القومية هو التعريف الدقيق للحدود التي تملك الدولة السلطة فيها. من الممكن تعريف مفهوم "الدولة" على أنه:
"عنقود من المؤسسات التي تدعي السلطة العليا في تحديد القانون في مجال جغرافي معين، وتطالب بأن يكون الاستخدام الشرعي للإخضاع والعنف محصورا لديها."
(Guibernau and Goldblatt, 2000, p. 123)
إن أهمية الحدود هي التي تتزعزع بسبب ظهور الصفقات والعلاقات عابرة-الحدود، التي ترفض أو تجتاز القوانين وأساليب المراقبة والتفتيش القديمة المرتبطة بها. فالدول القومية أصغر من أن تستطيع أن تؤثر في التغيرات العالمية، وأكبر من أن ترد ردا فعالا على الضغوطات الممارسة عليها لأجل زيادة المرونة والتنافسية، أو بتعبير غيدنز:
"أصغر من أن تحل المشكلات الكبيرة، ولكن اكبر من أن تحل المشكلات الصغيرة"
(Giddens, 1999, Lecture 1).
على الرغم من أن مصطلح "العولمة" أصبح مقبولا لدى دوائر واسعة، والكثيرون يؤمنون بأنه يعبر بقدر-ما عن التغيرات الجارية حاليا في العالم - فإن وجود العولمة و مفهومها ما يزالان محل اختلاف لدى الباحثين في العلوم الاجتماعية. فكما سنرى لاحقا، هناك من يشكك بكونها تمثل انفصالا كبيرا عن الماضي، كما يتخيل أنصارها المتحمسين. وسنعرض فيما يلي الخلافات الأساسية حول العولمة، وأسس الاتجاهات التحليلية المختلفة والمصطلحات التي تعرف العولمة.
يتبع...